مرآة العصر في تاريخ ورسوم أكابر الرجال بمصر

 مرآة العصر في تاريخ ورسوم أكابر الرجال بمصر


توفى والدي وأنا في الثانية من عمري فلم يخلف لي من رأس مال لتجارة هذه الحياةً إلا تذكاره الحسن وأدبه الذائع بدليل قول العلامةُ الشهير الشيخ "ناصيف اليازجي" فريد عصره يرثيه:
قل للمدارس اندابي   ...   أسفًا عليه وقد يقال لك احزني

وتعلمت اللغةُ الانكليزية منذ حداثتي على غير معلم٬ ويلذ للقارئ أن يعلم أن في عائلتنا عادة حسنةً لا تزال مستتبةً حتى ألان وهي أن يكون بالكلام في المنزل قاصراً على اللغةً الانكليزية٬ وهكذا يشب الأطفال وهم يعرفونها. واذكر أنني في صغري دخلت المدرسةً الوطنيةً للعلامةً المرحوم المعلم "بطرس البستاني" ثم لما ترعرعت على ما يقال في مثل هذا البيان نقلت إلى مدرسةً في عين زحلتاً من لبنان فاكتسبت منها بعض العلوم ولكنني خسرت فيها نظري٬ إذ شعرت بمبادئ قصر البصر (الميوبي)
واذكر أنني أنشأت في المدرسةً جريدةً صغيرةً أسبوعيةً وسميتها الأرز وكنت اذكر فيها الحوادث المدرسية كأنني علمت من صغري أنني سأكون صحافيا. وكان عمي "خليل أفندي سركبس" صاحب جريدة "لسان الحال يسجعني"

على الدرس ويعدني أن يسلمني تحرير جريدته متى صرت قادرا على ذلك٬ فلما عدت إلى بيروت خيل لي الوهم السائد على كل صغير أن صاحب لسان الحال سوف يتنحي ويسلمني أمر الجريدةً كما لو كنت المستر غلادستون٬ ولكن خاب أملي؛ لأنه اخذ في تمريني على أشغال المطبعةً اليدويةً بين صف حروف عربية وإفرنجيةً وغير ذلك حتى قطعت الأمل من الدخول في عالم التحرير٬ وفي غضون انتقالي كمرتب٬ جمعتُ كتابًا سميته "الندي الرطيب في الغزل والنسيب" تضمن نفس منظومات العصر وطبعته وراج رواجًا حسنًا. ثم أن محرر لسان الحال أصيب  بمرض ولم أدر صباح ذات يوم إلا وصاحب لسان الحال قد استدعاني وعهد إلي الكتابة فلبثتُ أحرر لسان الحال مدة ثمانٍ سنوات وكان لي جهاد عظيم في تهذيب أخلاق المرأة وتنشيطها على الكتابة في الجرائد حتى اتصل خبر جهادي بالمرحوم "جول سمييون" فيلسوف فرنسا و"عطوفتلو أحمد مدحت أفندي" صاحب ترجمان حقيقة والمرحوم "سليم بك نقلا" ولهم شهادات في جرائدهم تستحق الشكر ثم سافرت إلى انكلترا فقضيت نحو سنتين سائحًا في مدنها٬ وحضرت أكثر جلسات البرلمان٬ وتعرفت ببعض كبار رجاله٬ ثم أنشأت في لندن جريدةً "رجع الصدى". وبعد ذلك عدت إلى بيروت فاستأنفت تحرير لسان الحال بعد صدر يوميًا.
وبعد نصف سنة عرجت عائدا إلى باريس مع صديقي الأمير "أمين رسلان" وهناك أنشأنا جريدة كشف النقاب ثم رجعت إلى مصر فأنشأت فيها في أول نوفمبر سنةً (1894) جريدةً المشير التي سمعت باسمها كل أذن أن لم تكن قد نظرتها كل عين. وفي سنة 95 حاكمتني حكومة بيروت على مقالات المشير وحكمت غيابيًا بإعدامي ثم عدلته إلى نفي. وفي أول نوفمبر سنةً (1896) أنشأت مجلةً "مرآةُ الحسناء" تحت اسم "ماريشال" وسنةً 97 أنشأت نشرةً الكهرباء٬ وقد الفت كتاب "سر مملكة" وطبع الجزء الأول منه ثم طبع ثانية مع الجزء الثاني وقد رفع علي بسبب جريدةً المشير عدة قضايا وبقيت مدة 4 شهور في مصر تحت حماية البوليس ونفر البوليس السري ملازم لي نهارا وليلا٬ ثم رفع الشيخ حسونة النووي شيخ الجامع الأزهر قضيةً علىَ لأنني انتقدت كتابته وبعد أن عقدت جلسة التحقيق الأولى صدر الأمر بحفظ الأوراق
وأخر القضايا وأهمها القضيةً الشهيرةً التي رفعتها النيابةً بطلب قنصليةً ألمانيا في مصر بدعوى أنني  طعنت في جلالةُ الإمبراطور "غليو" فحكم علىَ في الابتدائي بالحبس وغرامةً 20 جنيهًا وفي الاستئناف خفض الحكم إلى شهرين و5 جنيهات فعارضت في جلسةً المعارضةً حكم على بالحبس أسبوعًا واحدًا وغرامةً ألف عشر فقضيت في الحبس من أول أكتوبر سنةً 97 إلى 7 سنةً٬ ونلت رخصةً بالكتابةً في الحبس فأصدرت المشير مرة من الحبس ثم نشرت بعد خروجي مقالات متتابعةً شرحت فيها حوادث كل يوم من الأيام التي قضيتها في الحوض المرصود وهكذا انتهت القضيةً الألمانية٬ً ولا يزال المشير حيًا٬ يقول الحق بجسارةً لا مثل لها.
أما أنا شخصيًا فطويل القوام أسمر اللون معتدل الجسم حاد المزاج صعب المراس وهذا كل ما اعرفه عن نفسي
سليم سركيس
محرر المشير بمصر   
  
{ترجمة  علي أفندي جعفر}
هو علي بن جعفر بن يوسف بن إبراهيم جعفر من أعيان المنوفيةً والفاضل وجهائها ومن بيت اشتهر بالنبل والفضل وتراث المكارم كان أبوة قائمًا مقامًا في عهد محمد علي باشا الكبير ثم توارث أنجاله منصب عمدةَ البلد٬ ولا يزال هذا المنصب في أيديهم إلى الآن.
ولد صاحب الترجمة في خلال سنةَ (1278هــ) من أبوين كريمين فتربى تربيةً حسنةً٬ ورضع لبان الأدب والاستقامةً٬ وقد تلقى الدروس الأولية في المدارس الأهلية فنبغ فيها وامتاز في جميعها على رفاقهِ مما يدل خير دلالةً على ذكائه وحسن اجتهاده.

وفي سنةً (1880) عين عمدةً على بلدته فقام بأعباء هذه المهمةً خير قيام وأظهر من الدرايةً والنزاهةً وحسن السياسةً ما اكتسب ثقةً الخاص والعام وقد امتاز في حل المسائل المتعلقة بالأفراد وفض كل خلاف يقع بين السكان٬ بما أعطى من سلامةً الرأي وسلامةً النيةً٬ وحسن المقاصد٬ فكان قولة دائمًا هو القول الفصل في جميع ما يطرأ من المشاكل٬ وكان الجميع ينصاعون إلى رأيه٬ ويصعدون بأمره عن طيب خاطر٬ حتى أن المحكوم عليهم كانوا يظهرون السرور بحكمه٬ ويقتنعون بأنهم المخطئون؛ وفي ذلك من الدلالة على حسن مبادئه وثقةً الناس به.
ومازال يتولى منصب العمدة ويحكم في القسط بين الناس إلى منتصف عام 1896 حيث امتدت أشغاله٬ واتسع نطاق زراعته فرأى من نفسه شدةً احتياجه إلى انقطاعه إلى أعمالهِ الخصوصيةً٬ وإدارةً شؤونه الزراعيةً؛ فالتمس إقالته من هذا المنصب؛ فأجيب إلى ملتمسه٬ وعين في مكانه أخوه.
وهو شديد الكلف بالزراعةً وقد عهد فيه هذا الميل منذ الحداثةً بحيث كان فطريًا فيه٬ وهذا هو السر في نجاح زراعته؛ ولذلك عهد إليه الاهتمام بإدارةً هذه الأشغال دون إخوانه. أما خلافةً فانه لين العريكة٬ حلو المعاشرة٬ً طيب السريرةً٬ طاهر الأخلاق؛ ولذلك فهو محمود من كل لسان٬ مشكور على الإطلاق. ولا زال إلى ألان مهتمًا في شؤونه الزراعيةً وهو عائش عيشةً تقوى وصلاح.
  
{ترجمة السيد بك شعير}

هو السيد بك شعير ابن المرحوم محمد بك شعير من وجهاء المنوفيةً٬ وعيون أعيانها.
ولد صاحب هذه الترجمةً في بلدةً "كفر عشما" من مديريةً المنوفيةً وقد تلقن عن المرحوم أبيه مبادئ القراءةً العربيةً٬ فلما رأى والده مخائل الذكاء٬ ودلائل ألفطنه٬ تلوح عليه بعث به إلى مدرسةً طنطا الأميريةً فتعلم فيها اللغةً التركيةً بفروعها٬ وقام فيها يرضع لبان العلم أربع سنوات بحيث أتقن العربيةً والتركيةً ونال حظًا وافرًا من العلم.
ثم انه اضطر إلى مغادرتها على اثر وفاةً والده٬ والاكتفاء بما تلقاه فيها من العلوم؛ فخرج من المدرسةً وتولى أعمال أبيه الذي كان قد ترك له ثروة طائلةً٬ وأملاكًا واسعةً٬ منكبًا على الإعمال بما فطر عليه من الجد والنشاط حاذيًا حذو أبيه من النزاهةً والاستقامةً٬ والصدق وحسن المعاملات٬ فاتسع نطاق زراعته اتساعًا عظيمًا٬ لدربته ودرايته٬ وحسن سيره في الأعمال حتى أصبح يعد من أكبر المزارعين في تلك المديريةً وأشهرهم دربةً وحنكةً واختبارًا في الأمور الزراعيةً.
أما أخلاقه فهى على غايةً الدعةً والسكينةً وهو عف الضمير٬ مهذب الأخلاق٬ طاهر النفس٬ يساعد إخوانه في الإنسانيةً٬ جهده ولا يذخر سبيل في مساعدةً أولي المسكنةً٬ والفاقةً٬ وعضد المشروعات الخيرية والأدبيةً والوطنية؛ وقد عرف بصدق وطنيته وشدة إخلاصه للأريكةً الخديويةً؛ حتى أن سمو العزيز أنعم عليه بالرتبةً الثانيةً مكافأةً له عن استقامته وإخلاصه وصدق نيته.
وهو إلى الآن لا يزال منهمكًا في أعماله الزراعيةً ولا تزال ثروته في امتداد واتساع لحسن اعتنائه وشدة خبرته٬ وانتظام سيره. وفي الجملة فقد بني أعماله على ثلاث قواعد وهي الاعتماد على الله والصدق في المعاملات٬ والعمل الدائم ولعل هذه القواعد هي السبب في نجاحه. وفقه الله إلى ما أراد وجعله قدوةً لسواه من رجال هذا القطر السعيد.

 {العلامة الدكتور فارس نمر أفندي}
"صاحب المقتطف والمقطم"
   

{ترجمة حضرة العالم الفاضل الدكتور فارس نمر أفندي}
هو الكاتب المدقق٬ والعالم المحقق أحد مشاهير رجال العصر التاسع عشر٬ ولد في بلدة "حاصبيا" من أعمال ولايةً سوريا في 6 يناير (كانون الثاني) سنةً (1856). وبعد خمسين سنين من ولادته؛ حدثت المذابح الهائلةً في سوريا المعروفةً بسنة ستين وكانت "حصابيا" إحدى النواحي التي عمتها تلك المصائب٬ فقتل أبو صاحب الترجمةً أوانئذٍ فحملته أمه مع أخيه وأخته إلى مدينة بيروت حيث اتخذتها سكنًا لها. ولما بلغ منتصف السادسةً وضعته المرحومةً والدته في المدرسة الانكليزيةً لتعلم مبادئ العلوم اللازمةً لمن كان في سنه. وفي نهايةً السنة الأولى رفع إلى منبر في الاحتفال السنوي فلفظ خطبةً أدهش بها السامعين وقد تنبأ بعضهم بأنه سيكون أول خطيب في الشرق.
وفي أواخر سنةً (1863) ذهبت به والدته إلى القدس الشريف٬ وأدخل هناك المدرسةً الصهيونيةً الانكليزيةً٬ فبقى فيها نحو خمس سنين تعلم في أثنائها الانكليزيةً والجرمانيةً٬ ومبادئ التاريخ والحساب٬ ثم عاد إلى بيروت ودخل في أواخر سنة 1868 مدرسة عبيه في لبنان وفيها تلقى مبادئ الصرف والنحو. ولم يقم في تلك المدرسة أكثر من أربعة أشهر٬ فتركها وسافر إلى "حصابيا" مسقط رأسه حيث مرض مرضا ثقيلًا بالحمى. وبعد سنةً جاء بيروت حيث كانت أمه قد عادت إليها واستخدم في مخزن تجاري مدة ثم تركه طامعا بتعلم العلوم العالية. فدخل المدرسة الكليةً الأمريكية٬ً وجعل همةً التقاط الفوائد٬ واكتساب العلوم الساميةً٬ فسهر وجد واجتهد. وكان في مقدمة مؤسسي جمعيةً شمس البر الشهيرةً في بيروت وله فيها الخطب الرنانة٬ والمباحث الجليلةً٬ ولم تمنعه وفرة دروسه عن خدمتها وتوطيد أركانها. وكان أيضًا وهو في حين تعلمه في المدرسةً المذكورةً يدرس وقتًا في مدرسةً البنات البروسيةً العاليةً٬ وكان يصرف ما يسرقه من أوقاته المدرسيةً في ترجمة الكتب الدينيةً٬ والتاريخيةً٬ والعلميةً وقد طبعت في النشرة الأسبوعيةً.
وبعد أن انتهى من دروسه القانونيةً٬ نال الشهادة البكلوريةً سنةً (1874) وعين معاونا لحضرة الفيلسوف الفاضل الدكتور "فانديك" في المرصد الفلكي في بيروت ومعلمًا لعلمي الجبر٬ والهيئةً في المدرسةً الكلية وكان يلم أيضًا اللغةً الانكليزيةً في المدرسة البطريركية العالية للروم الكاثوليك٬ ودخل محفل لبنان الماسوني ونال رتبةً النخل والصدف وعين رئيسًا له.
وفي عام (1875) ترجم كتاب "الظواهر الجويةً" وهي أول جريدةً علميةً في اللغةً العربيةً اكتسبت شهرة عظمى وثبتت على خطة واحدةً حتى اليوم أي 22 عامًا. ثم عين مدرسًا للغةً العربيةً وآدابها وللاتينيةً في نفس المدرسة الكليةً٬ وبعد ذلك مدرسًا للرياضيات العليا والهيئةً والظواهر الجويةً.
وفي عام (1882) انشأ مع جماعة من أهل الفضل المجمع العلمي الشرقي في بيروت وقد افتتحه بخطاب نفيس في علم الهيئة القديم والحديث طبع في المقتطف وفي كتاب أعمال المجمع المذكور
وفي عام (1883) عين مديرا للمرصد الفلكي والمتيورولوجي إذا كان قد استعفي المرحوم الدكتور "فان ديك" وبقى عاملًا على الرصد فيه إلى حين تركه المدرسة الكلية وإتيانه إلى الديار المصرية وذلك في أواخر عام (1884) وفي سنةً (1885) نقلت مجلة المقتطف إلى مصر وصارت تصدر في القاهرة٬ وكان لما بلغ كبراء مصر وعلماءها الإعلام خبر التصميم على نقل إدارة المقتطف الزاهر إلى مصر سروا سرورًا عظيمًا فكتب كل من صاحبي الدولةً الوزيرين الخطيرين "شريف باشا ورياض باشا" يرحبان به وهاك ما كتبه دولتلو رياض باشا بعد الديباجةً.
أخبرت أنكم عزمتم على نقل جريدتكم الغراء إلى الديار المصريةً فسرني ذلك لما تحويه من الفوائد الجليلة والنفع الدائم لكل بلاد رفعت راية علومكم فيها. وقد اغتنمت هذه الفرصة لأبدي بها نصيحتي لأبناء هذا القطر بمطالعتها وإجتناء فوائدها؛ فإن للمقتطف عندي منزلةً رفيعةً وقد ولعت بمطالعته منذ صدوره إلى اليوم فوجدت فوائده تتزايد وقيمته تعلو في عيون عقلاء القوم وكبرائهم. ولطالما عددته جليسا أنيسًا أيام الفراغ والاعتزال٬ ونديما فريدًا٬ لا تنفذ جعبة أخباره ولا تنتهي جدد فرائده سواء كان في العلم أو الفلسفةً٬ أو في الصناعةً والزراعةً التي عثرت فيها على فوائد لا تثمن٬ هذا علاوة على ما فيه من المباحث الآيلة إلى تهذيب العقول وجلاء الأذهان وتفكيه القراء فلذلك تترحب مصر بالمقتطف الأغر وتحله محل الكرام الذين اشتهر فضلهم وعمت فواضلهم
(مصر)  رياض

وهذا ما كتبه "دولتلو" المرحوم شريف باشا
   
 إن الذين خبروا حال العالم واستقصوا سنن الهيئةً الاجتماعيةً واستقروا أسباب ترقيةً البلدان واتساع نطاق الحضارةً في كل مكان اجمعوا أن العلم أعظم ركن في بناء التمدن٬ والمعارف أوثق رباط لحفظ الأمم٬ وتعزيز شأنها؛ ولذلك عظمت قيمةَ العلماء عند أرباب العقول واعتبرت الوسائط التي من شأنها بث العلوم وتعميم المعارف في البلدان٬ ولما كان المقتطف خير ذريعةُ لنشر المعارف بين المتكلمين بالعربية٬ً فلا عجب إذا ما نال من رفعة المقام في اعتبار الخاصةً والعامةً معًا٬ وقد بلغني في هذه الأثناء خبر نقله إلى القطر المصري بعد ما خبرته وخبرت معارفكم زمانًا فاستحسنت أن ابدي مسرتي بذلك لما فيه من الفوائد التي لا تستغني عنها البلاد٬ ولا ريب عندي أن عقلاء مصر٬ ونبهاءها لا يغفلون عن تعميم فوائده٬ ولا يتقاعدون عن السعي لنشر علومه بينهم لاسيما وقد علموا أن إنارة الأذهان وتثقيف العقول أقوى واسطةً لحفظ الأمة وشد عري إتحادها.
(مصر)       محمد شريف

وبعد مضي سنتين من وجود صاحب الترجمةً في القاهرةً أنشأ بمعاضدةً بعض أصدقائه جمعيةً الاعتدال في مصر؛ وذلك في عام (1887) ثم انتخبه محفل الثبات الماسوني رئيس شرف له وانتخب عضوًا لمجمع بريطانيا الفلسفي وسنة (1889) أنشأ مع زميليه الدكتور "يعقوب أفندي صروف٬ وشاهين بك مكاريوس" جريدة المقطم وسنأتي في أخر هذه الترجمةُ على الغاية التي
أنشئت لأجلها هذه الجريدة والشهرةُ العظيمةً التي نالتها في الشرق والغرب٬ وأهدي إلى حضرة صاحب الترجمة وآنئذ من جلالته "أوسكار" ملك اسوج ونروج بصفة كونه رئيس المؤتمر الشرقي نشان المعارف الذهبي العالي مكافأةً له على خدماته الجليلةً العديدةً في تعزيز المعارف٬ ونشر العلوم٬ وهاك نص ما كتبه إليه معتمد الدولة الآسوجية في مصر:
حضرة الفاضل الأديب فارس أفندي نمر حفظة الله:
معلوم لجنابكم ما نحن عليه من حب أرباب المعارف ومساعدتهم بما تحتمله القدرة رغبةً في تنشيط الهمم وإعلاء كلمةً الأدب وقد رأينا من أثاركم العلمية على تنوع مواضيعها ما تقصر عنه عبارات البلغاء لو عمدوا إلى بيانه؛ فلذلك طلبنا إلى جلالة مولانا الملك "أوسكار" بلسان الرجاء أن ينظر إلى جانبكم بعين لا ترى منه غير عضو من جسم الهيئة العلمية فوقع الطلب موقع القبول إذا أنعمت الحضرة الملكيةً على الجناب بوسام ذهبي (ميداليا) لا يحمله إلا رجال الفنون والصناعات العاليةً٬ وسنقدم إلى مصر به عما قريب٬ فيزدان بصدر الجناب لا زال ي المجالس صدرًا وفي المطالع بدرًا والسلام عليةً ورحمةُ الله.
الكونت كرلودي لندبرج
قنصل دولة السويد والنرويج
العام ووكيلها السياسي بمصر
وفي 18 يوليو من عام (1888) اقترن بكريمة قنصل الانكليز سابقًا في الإسكندرية فسافرا إلى سوريا لصرف صيف تلك السنة في لبنان وفي أواخر الصيف عاد إلى مصر وفي شهر يوليو عام (1890) نال رتبة دكتور في الفلسفة من مدرسة نيويورك الجامعةً٬ ومن ثم زار عواصم أوروبا في السنة نفسها وجاء "لوندرا" واجتمع بكبار السياسيين فيها ونشرت جرائدها الشيء الكثير عنه وعن أرائه.

وله في خلال السنين الطويلةً التي صرفها ما بين التعليم والعمل بالعلوم خطب كثيرة طبع قليلها٬ وبالاختصار أن شهرته تغني عن كثرة الإطناب به ومعارفه المعروفةً عند الخاصةً والعامةً تشهد له بعلو المنزلةً في عالم الفضل والفوائد العميقةً التي بذلها للبعيد والقريب٬ حملت جماهير العلماء والفضلاء على الاعتراف له بالسبق في مضمار العلم والأدب ولا يقوى السامع بكلامه٬ والقارئ لمقالته على النكران٬ وقد قال "سعادة كتشنر باشا" سردار الجيش المصري إذ سمعه ذات مرة يوضح خطابًا انكليزيًا للجنرال سمعت في إحدى جلسات محفل اللطائف الماسوني في مصر "أن الدكتور نمر كله عقل" وقال غيره: "أن العبارات العربيةً أفصح من عبارةً الخطاب الانكليزيةً" وهو يحسن الانكليزيةً عدا لغات متعددة أوروبية٬ وانتخبه محفل اللطائف رئيس شرف له وقلده المحفل الأكبر نيشان الاحترام الذهبي.
وهو ألان منقطع إلى تحرير المقطم؛ كما كان منذ نشأته ويشارك في تحرير المقتطف عند سنوح الفرص. ولما كانت جريدة المقطم الغراء قد نالت مركزا عاليا بفصاحة عبارتها وحريةً مباديها٬ وغزارة فوائدها وجب علينا في ختام ترجمةً منشئها الفاضل أن نذكر شيئًا عنها لأننا نعدها ترجمان أفكاره

ولسان حال مبادئه الشريفةً فنقول:
مطلب جريدة المقطم الغراء
ينقسم مطلب هذه الجريدة إلى ثلاثة أقسام سياسي٬ وانتقادي٬ وإخباري؛ أما قسمها السياسي فهو يشمل ما تعلق بأحوال السياسةً بين الشرق والغرب على أخصر مجال وأقرب طريق دون التحزب إلى جانب دون جانب أو ميل في التصديق إلى حادثة جرت٬ أو سياسةً عرضت دون غيرها من سائر الحوادث والسياسات بحيث تعد مخبرًا نزيهًا يجمع في القول الموجز كلما يفيد المطالعين من الآراء الصائبةً تاركةً ما سوى ذلك من المباحث الطويلةً والآراء العميقةً والحوادث السياسيةً الخفيةً التي كثيرًا ما يدل ظاهرًا على عكس باطنها ويكون الحكم فيها من قبيل الرجم بالغيب٬ أو من قبيل ما تصوره الأميال الحزبيةً من نتائجها.
ولقد يتهمها البعض بالمغالاةً في مدح المحللين٬ والتطرف بالطعن في الدولة العثمانيةً؛ ولكنها متى فعلت ذلك فهىَ تقف فيه عند حد الحقيقةً لا تتعداها في شيء إلى ما وراء النزاهةً٬ والقصد السليم؛ فإذا أساء البعض ظنهم بها؛ فذلك مما يسميه الناس بجرح الحقيقةً.
وأما قسمها ألانتقادي فهو يشمل أحوال البلاد المصرية كلها وما تعلق بإدارتها وأحكامها وقضائها ونظام شؤونها٬ وأحوال سياستها الداخليةً٬ وأعمال رجالها من مخطئ ومصيب لا تتعرض فيه إلى جانب الشخصيات ولا تمس به كرامة الأفراد إلا فيما اتصل بوظائفهم ونتائج أعمالهم وظواهر أحكامهم من إحسان سياسة أو إساءة تدبير فلا تمتدح إلا الأعمال ولا تنتقد إلا الأحوال دون أصحاب الأحوال؛ ولذلك فهىَ رائقة في أكثر المسامع حبيبة إلى أكثر القلوب؛ وإذا كانت تتطرف بعض الأحيان في النقد فإنما يشفع بها حب الإصلاح وحسن القصد.
وأما قسمها الإخباري فهو يشمل كلما يهم الوقوف عليه من الحوادث الداخليةً والخارجيةً٬ وهي أوفر مادة من جميع الجرائد في هذا الباب٬ ولها وكلاء ومكاتبون في جميع الأنحاء يوافونها بأصدق الأخبار٬ وأصحها حتى أنها بلغت بصدق روايتها مبلغًا عظيمًا لم تبلغ إليه جريدةً من قبل في الشرق.
هذه خطةً المقطم وأقسام أبحاثها يلحق بها ما لا تستغني الجرائد عنه من مهمات الحوادث المحليةً٬ وما يجب الوقوف عليه من حوادث اليوم متخذه في ذلك كله خطة الصدق والإيجاز التي يستفيد المطالع بها ولا يمل القارئ منها؛ أما إنشاؤها فهو حسن رشيق وفي الجملة فقد كان حقها أن ترضى جميع الأحزاب لولا ما توهمه من سوء الظن فيها بعض الأحزاب.
هذا ملخص ترجمة أشهر خطيب وكاتب شرقي على ما أعلم وقد أخذت بعض ترجمته عن المقتطف٬ واللطائف٬ والمقطم٬ وكتب أخرى والبعض الأخر مما سمعته من أصدقائه وقد بنيت حكمي عليه من مقالاته.

 {ترجمة الأستاذ العالم الفاضل الشيخ علي يوسف}
"صاحب جريدة المؤيد الغراء"
ما كان اخلقني بالأسباب في وصف صاحب هذه الترجمة والإتيان على جل ما اعمله ويعلمه الناس من فضله فان من كان له نصيبه من الأدب والعرفان٬ وحفظه من سمو المنزلة ورفعة المكان٬ تنطلق في سبيل وصفه كل قريحةً ويندفع في الثناء عليه كل لسان ولكن القليل من وصفه يدل على الكثير من فضله فأقول:
هو السيد على يوسف بن السيد أحمد يوسف بن السيد يوسف بن السيد مبارك يوسف بن السيد شيخون يوسف بن السيد بركات يوسف بن السيد مبارك بن السيد يوسف من ذريةً سيدي محمد شيخون الحسيني الكائن
ضريحه بناحية "بلصفوره" التابعة لمركز سوهاج بمديرية جرجا هذا هو نسبه حسب ما هو مذكور في سجل نقابةً الإشراف الرسمي بالديار المصريةً.
ولد في شهر جماد الثاني عام (1280 هــ) ٬ ففي بلدته "بلصفوره" من والده المرحوم السيد أحمد يوسف المتوفي عام (1281ه) ٬ ولما كانت والدته من بلدة تسمى "بني عدي" التابعةً لمركز منفلوط بمديريةً أسيوط وهي بلدة كبيرةً شهيرةً بالعلم والعلماء بالصعيد انتقلت به بعد وفاة والده إلى البلدة المذكورةً؛ وفيها تعلم القرآن الشريف إلى الثانية٬ عشرةً من عمره٬ ثم بدا يتلقى دروس العلم على أستاذه "الشيخ حسن الهواري" العالم المشهور في تلك البلدةً من سنة (1291) إلى (1299) وفي هذه السنة حضر إلى القاهرة وأخذ يقبس العلم تكميلًا على مشاهير الأساتذةً في الجامع الأزهر فتلقى في الفقه على الأستاذ الشيخ "حسن داود" كتابي "الخرشي٬ والمجموع في مذهب الإمام مالك" وهما أخر الكتب التي تدرس بهذا المذهب في الجامع الأزهر وتلقى على الأستاذ الشيخ "أحمد أبي الفضل" كتاب "الاشموني" في النحو والصرف مع حاشية الصبان٬ وكتاب "السعد التفتازاني في البيان والبديع والمعاني" وجزًأ كبيرًا من كتاب "جمع الجوامع في الأصول" وهو أخر ما يقرأ في العلوم العقلية بالأزهر الشريف٬ وتلقى كتبًا كثيرةً في الحديث٬ والتفسير٬ والمنطق٬ والتوحيد٬ وأداب البحث والمصطلح على جملةً من كبار المشايخ كالأستاذ "الشيخ الألباني"٬ و"الشيخ محمد البحيري" والشيخ "محمد الغربي" وغيرهم ..

وفي خلال هذه المدةً التي صرفها في الجامع الأزهر؛ كان يشتغل كثيرًا بمطالعةً كتب التاريخ٬ والسير٬ والأدبيات الشعريةً والنثريةً؛ ولذلك نبغ في النظم والنثر. وفي عام (1303) جمع ديوانًا من نظمه ونثره وطبعه على حدته باسم "نسمة السحر" وفي أثناء طبعه لهذا الديوان مالت نفسه إلى الاشتغال بالصحافةً فتقدم إلى نظارةً الداخليةً بطلب إنشاء صحيفة علميةً أدبيةً بإسم "الأدب" فرخصت له بعد ممانعة طويلة بإنشاء هذه الجريدةً وبقيت إلى سنة (1307 هــ) وقد احتمل صاحب هذه الترجمةً من المشاق والنفقات في خلال هذه المدةً ما يتخذ دليلًا على عظيم ثباته وقوة عزيمته؛ ولكن في السنةَ الثالثةً لجريدته كثر إقبال الناس عليها وعرف منشئها بمكانة مهدت له وضع جريدةً المؤيد الغراء التي ظهر أول عدد منها في 8 ربيع الثاني سنةً (1307) الموافق أول ديسمبر سنة (1889م).

وقد اتفق انه كانت لصاحب المؤيد معرفة بشخص من طلبةً الأزهر اسمه "الشيخ أحمد ماضي" يعرف فيه الذكاء والنباهةً وحب شديد الميل قويا إلى الكتابة٬ والإنشاء؛ وكان يكاتبه بمقالات مفيدة في صحيفة الآداب فلما شرع صاحب الترجمةً في إنشاء المؤيد خاطب الشيخ ماضي في أن يكون معه في عمل الجريدة وقد اتفقا على الطريقة التي جريا عليها؛ ولكن لم يلبث الشيخ "أحمد ماضي" المذكور بضعة شهور من انشأ الجريدةً حتى اعتراه مرض تنحى بسببه عن العمل؛ ولما كانت الجريدةً في أول نشأتها تحتاج إلى نفقات جمة بدون أن ينتظر منها إيراد كافِ فقد عانى صاحب الترجمة مشاقًا جمة لا تقدر         

إرسال تعليق

0 تعليقات